سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قلت: {لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا}، من قرأ بالرفع والتأنيث: ففتنة اسمها، و{إلاَّ أن قالوا}: خبرها، ومن قرأ بالنصب: فخبرٌ مقدم، والتأنيث لأجل الخبر، ومن قرأ بالتذكير والنصب، فخبر مقدم، و{إلاَّ أن قالوا}: أسمها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر يا محمد {يوم نحشرهم} أي: المشركين، {جميعًا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم} أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، {الذين كنتم} تزعمونهم شركاء، وتودونها وتنتصرون لها، فيُحالُ بينهم وبينها، ويتبرأون منها، كما قال تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} أي: لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به، إلا التبرؤ منه، بعد الانتصار له والتعصب عليه، أو: لم يكن جواب اختبارهم إلا التبرؤ من الشرك، فيكذبون ويحلفون عليه، مع علمهم بأنه لا ينفع من فَرط الحيرة والدهشة.
فإن قلت: كيف يجحدون مع قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} [النِّساء: 42] فالجواب: أن ذلك يختلف باختلاف الطوائف والمواطن، فيكتم قومٌ ويُقر آخرون، ويكتمون في موطن ويُقرون في موطن آخر؛ لأن يوم القيامة طويل، وقال ابن عباس لَمَّا سئل عن هذا: (إنهم جحدوا، طَمَعًا في النجاة، فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم، فلا يكتمون حديثًا).
قال تعالى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} بِنفِي الشرك عنها بعد تحققها به ونظيره قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي: غاب عنهم ما كانوا يعبدونه من الشركاء افتراء على الله.
الإشارة: من أحب شيئًا فهو عبد له، ويوم القيامة يتبرأ منه، ويرى وبال فتنته والاشتغال به، فينبغي لمن أراد السلامة من الفتنة، أن يُفرد محبته لله، ويتبرأ من كل ما سواه، ويُفرد وجهته لله، ولا يشتغل ظاهرًا ولا باطنًا إلا بما يقربه من الله ويبعده عما سواه وفي الحديث: «تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ والدِّرهَمِ والخَمِيصَةِ، تَعِسَ وانتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انتَقَشَ».


قلت: {مَنْ}: لفظها مفرد ومعناها جمع، فيجوز في الضمير مراعاة اللفظ فيُفرد، كقوله هنا: {ومنهم من يستمع إليك}، ويجوز مراعاة المعنى فيجمع، كقوله في يونس: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يُونس: 42]، والأكِنَّة: الأغطِية، جمع كنان، و{أن يفقهوه}: مفعول له؛ أي: كراهية أن يفقهوه، و{حتى}: غاية، أي: انتهى التكذيب حتى وصلوا إليك يجادلونك، والجملة بعدها: إمَّا في محل جر بها ويجادلونك جواب لها، و{يقول}: تبيين لها، وإما لا محل لها؛ فتكون ابتدائية. والأساطير: جمع أسطورة، أو أسطار؛ جمع سَطر، فيكون جمع الجمع.
يقول الحقّ جلّ دجلاله: ومن الكفار {من يستمع إليك} حين تقرأ القرآن، والمراد: أبو سفيان والوليد والنضر وعُتبة وشَيبَة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، فقالوا للنضر: ما تقول؟ فقال: والذي جعلها بيننا وبينه ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرك لسانه، ويقول أساطير الأولين، مثل ما جئتُكم به. قال السُّهَيلي: حيث ما ورد في القرآن: {أساطير الأولين} فإنَّ قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلَّم أخبار ملوكِهم، فكان يقول: حديثي أحسنُ من حديث محمد، فنزلت فيه وفي أصحابه.
{وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً} أي: أغطية؛ كراهة {أن يفقهوه}؛ لما سبق لهم من الشقاء، {و} جعلنا {في آذانهم وقرًا} أي: ثقلاً وصمَمًا فلا يسمعون معانيه، ولا يتدبرونها. {وإن يَرَوا كلَّ آية} ومعجزة {لا يؤمنوا بها}؛ لفرط عنادهم، واستحكام التقليد فيهم، وسبقِ الشقاء لهم، فلا يزال التكذيب والشك يعظُم فيهم {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} أي: حتى ينتهي بهم التكذيب إلى أن يجيؤوك يجادلونك؛ {يقول الذين كفروا إن} أي: ما {هذا إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأولين}، فإنَّ جَعلَ أصدق الحديث خرافاتِ الأولين غايةٌ التكذيب.
{وهم} أيضًا {يَنهون عنه} أي: ينهون الناس عن القرآن، أو عن الرسول والإيمان به، {وينأون عنه} أي: يبعدون عنه، فقد ضلوا وأضلوا، أو يَنهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه؛ فلا يؤمنون، كأبي طالب ومن كان معه، يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة. وفي {ينهون} ضربٌ من ضروب التجنيس من علم البلاغة. قال تعالى: {وإن} أي: ما {يُهلكون} بذلك {إلا أنفسهم وما يشعرون} أن ضررهم لا يتعداهم إلى غيرهم.
الإشارة: اعلم أن القلب تحجبه عن تدبر كلام الله والتمتع بحلاوته أربعةُ حُجُب:
الأول: حجاب الكفر والشرك ويندفع بالإيمان والإسلام.
والثاني: حجاب المعاصي والذنوب، وينخرق بالتوبة والانقلاع.
والثالث: حجاب الانهماك في الحظوظ والشهوات واتباع الهوى، وينخرق بالزهد والورع والتعفف ونوع من الرياضة.
والرابع: حجاب الغفلة والخوض فيما لا يعني، والاشتغال بالبطالة، وينخرق باليقظة والتوجه إلى الحق، والانقطاع إلى الله بكليته، فإذا انخرقت هذه الحجب عن القلب، تمتع بحلاوة القرآن ومناجاة الحق على نعت القرب والمراقبة.
وبقي حجابان آخران، إذا خرقهما العبد أفضى إلى مشاهدة المتكلم دون واسطة، أولهما: حجاب حلاوة الطاعة والمعاملة الظاهرة، والوقوف مع المقامات أو الكرامات، فإنها عند العارفين سموم قاتلة. وثانيهما: حجاب الوهم والوقوف مع ظاهر الحس، دون الوصول إلى باطنه، فيقف مع الأواني دون شهود المعاني، وقد قال الششتري:
لاَ تَنظرُ إلَى الاوانِي *** وَخُضْ بَحْر الْمعَانِي
لعلَّك تَرَانِي ***
وقال الغزالي: الموانع التي تحجب القلب عن الفهم أربعة: الأول: جعل الفهم مقصورًا على تحقيق الحروف؛ بإخراجها من مخارجها، فهذا يتولى حفظه شيطان وكُلِّ بالقراء، يصرفهم عن معاني كلام الله تعالى. والثاني: أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، من غير وصول إليه ببصيرة. الثالث: أن يكون مصرًا على ذنب، أو متصفًا بكبر، أو مبتلى بهوى في الدنيا مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب، وهو كالخبءِ على المرآة، فيمنع جلية الحق فيه، وهو أعظم حجب القلب، وبه حُجب الأكثرون، الرابع: أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلاَّ ما يتأوّل عن ابن عباس، ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي منهي عنه، فهذا أيضًا من الحجب العظيمة، فإن القرآن بحرٌ لا ساحل له، وهو مبذول لمن يغرف منه إلى يوم القيامة، كل على قدر سعته وصفاء قلبه. اهـ. بالمعنى.


قلت: {لو}: شرطية، وجوابها محذوف: أي: لرأيت أمرًا فظيعًا هائلاً، وإنما حذف في مثل هذا ليكون أبلغ ما يقدره السامع. و{لا نكذب} و{نكون}: قُرىء بالرفع، على الاستئناف والقطع عن التمني، ومثَّله سيبويه بقولك: (دعني ولا أعود) أي: وأنا لا أعُود، ويحتمل أن يكون حالاً، أي: غير مُكذِّبين، أو عطفًا على: {نُرد}، وقُرىء: بالنصب؛ على إضمار أن بعد واو المعية في جواب التمني.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولو ترى} يا محمد، أو: يا من تصح منه الرؤية، حالَ الكفار {إذ وقِفُوا على النار} حين يعاينونها أو يطّلعون عليها، أو يدخلونها، فيعرفون مقدار عذابها، لرأيت أمرًا شنيعًا وهولاً فظيعًا؛ {فقالوا} حينئذٍ: {يا ليتنا نُردُّ} إلى الدنيا، {ولا نُكذَّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنون}، ندموا حين لم ينفع الندم، وقد زلَّت بهم القدم، قال تعالى: {بل بدَا لهم} أي: ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم {ما كانوا يُخفون من قبل} في دار الدنيا من عيوبهم وقبائح أعمالهم، أو: بدا لهم حِقيّة الإيمان وبطلان ضده، عيانًا، لمَّا وقفوا الى التوحيد وعرفوه ضرورة، وقد كانوا في الدنيا يُخفونه ويُظهرون الشرك، عياذًا بالله. قال تعالى: {ولو رُدُّوا} إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور {لعادوا لما نُهوا عنه} من الكفر والمعاصي؛ لأنهم من قبضة الشقاء، والعياذ بالله، {وإنهم لكاذبون} فيما وعدوا من أنفسهم من الإيمان وعدم التكذيب. وفي هذا الإخبار بما لا يكون، ولو كان كيف يكون، وهو مما انفرَد الله بعلمه.
الإشارة: يوم القيامة هو محل ظهور حقائق الأشياء على ما هي عليه، فإن كانت حقًا ظهرت حقيقتها وصحتها، وإن كانت باطلة، ظهر بطلانها عيانًا، لكن لا تنفع المعرفة حينئذٍ، لرفع حجاب الحكمة وظهور القدرة، فلم يبقَ غيبٌ، وإنما المزِيَّةُ في الإيمان بالغيب، والمعرِفةَ في النكران، والشهود خلف رداء الكبرياء، بشهود المعاني خلف الأواني، فإن ظهرت المعاني فلا إيمان، وإنما يبقَى العيان، لأهل العيان، والخيبة لأهل الخذلان.
قال الورتجبي: القوم لم يعرفوا حقائق الكفر في الدنيا، ولو عرفوه لكانوا موحدين، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر، ولا ينفعهم ذلك؛ لفوتهم السير في النكرات، التي معرفتها توجب المعارف، وذلك المقام في آماكن صُدورهم، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر وشهوة العصيان بغير اختيارهم؛ لقلة عرفانهم به، ولا يكون قلبٌ من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب، بإلهام الله الذي يعرف به طُرُقَ رضى الحق، وصاحبه يعلم ذلك ويسمع ويُخفيه في قلبه، لأنه أدق من الشعرة، وحركته أخفى من دبيب النمل، ومع ذلك يعرفه من نفسه، ولكن من غلَبت شهواتُ نفسه عليه، لا يتبع خطاب الله بالسر، فأبدى الله لهم ما كانوا يخفونه، تعييرًا لهم وحجة عليهم، انتهى.
قلت: قوله: ولا يكون قلب... إلخ، حاصل كلامه: أن القلب من حيث هو لابد أن يطرقه الخصم إن حاد عن الحق، وهو المراد بهواتف الغيب، لكنه أخفى من دبيب النمل في حق الغافلين. فإن كان القلب حيًّا متيقظًا تتبع ذلك الخصم؛ حتى يزيله بظهور الحق، وإن كان ميتًا بغلبة الشهوات أخفاه حتى يموت، فيبدون له ما كان يخفيه من قبل. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8